راي الوطني

(أمي.. أنتِ قاسية) بقلم.. نوران عبد الرحمن أمين

“خرجتُ نهى من غرفتها وتوجهت لوالدتها بالصالون ، حيث كانت تقوم بتقطيع الطاطم، جلست نهى على الأريكة المقابلة لوالدتها وهي ممسكة بظرف ورقي، وملامح وجهها يملأه التوتر والأرتباك، بلعتُ ريقها ونظرت لوالدتها التي لم تعر لها إنتباه ،ثم أخذت نفساً عميقاً ، ومدت يدها بالظرفِ لوالدتها وقالت بهدوء مطأطأة رأسها..”

هل يمكنكِ قراءة هذا الظرف؟..

“نظرت والدتها لها بملامح باردة ثم قالت ساخرة..”

الا ترين أنني مشغولة!..

“نظرت لوالدتها لثوانِ ثم نهضت ووضعت الظرف على الأريكة و قالت لها بيأس..”

بعد أن تنتهي من إعداد الطعام..أقرأي ما بالظرف أرجوكِ

“تنهدت والدتها، ودخلت نهى لغرفتها ثم استلقت على الفراش لتأخذ قيلولة، نهى فتاة نحيفة ذات بشرة بيضاء شاحبة.. ووالدها قد توفى منذ زمن…..

أنتهت الأم من إعداد الطعام ثم جلست بالصالون واستلقت على الأريكة لتشاهد التلفاز.

وبعد قليل ظلت نظرات الوالدة متراوحة بين قراءة الظرف الورقي على الأريكة المقابلة ومشاهدة التلفاز، فأزداد فضولها بوجود ظرف مغلق لا تعلم ما بداخله!، وهدوء إبنتها اليوم، فليس من عادتها أن تكون هادئة عندما تطلب شيئاً من والدتها، تنهدت الأم ثم نهضت وأخذت الظرف من على الأريكة بهدوء.

وعادت لوضعيتها وقامت بأطفاء التلفاز،فتحت الأم الظرف فوجدت بداخله رسالة ورقية عنونها أنتِ قاسية.

تعجبت الأم من العنوان ثم بدأت بفتح الرسالة لتجد كلاماً بخط إبنتها يقول..

 أرجو أن لا تقاطعي كلمات هذه الرسالة البريئة كما تقاطعينني وأنا أتحدث معكِ..

فلتكوني رحيمة اليوم…

تعجبت الأم بتلك الجملة وأتسع بؤبؤا عينيها، ولكن دون أن تشعر كانت نهى قد خرجت من غرفتها وتراقب ردة فعل والدتها من وراء الستار.. أبتلعت الوالدة ريقها ثم أكملت القراءة..

أرجو منكِ أن تسترخي وانتِ تقرأين كلماتي!، لأننا سنعود بالزمن بعيداً مرة أخرى.. أزداد فضول الوالدة وتعجبها ثم أكملت القراءة محاولة السيطرة على أعصابها.. تذكرين ذلك اليوم الذي ظللت أبكي فيه وارجوكي أن تشتري لي دمية بياض الثلج..تذكرين ذلك اليوم صحيح؟..

أنفاسي كادت أن تنقطع هذا اليوم من البكاء، ظللت اترجاكي حتى تعجب كل من كانوا بالشارع أنني أتوسل لكِ لشراء دمية بياض الثلج باخسة الثمن من أحد المحلات!.

أتذكرين ماقلتِ، أمسكتِ ذراعي بقوة ونظرت لي بحدة وقلتِ لي معنفة (بياض الثلج تلك ليست سوى دمية لا تضر ولا تنفع ليست حقيقية ولن تتكلم معكِ، حتى شخصية بياض الثلج ليست سوى خيال من مؤلفٍ أحمق!، بياض الثلج ليست حقيقية، فهمتِ!!؟)، نجحتِ وقتها يا أمي، أوقفتي بكائي العشوائي وجعلتني بكماء ليوم كامل.. لم أتمكن بالحديث هذا اليوم، ظللتُ افكر، كيف بياض الثلج ليست حقيقية؟..

هل يعني ذلك أن ليس هناك الأقزام السبعة!..

لا يوجد أمير!..وإذا كانت بياض الثلج ليست حقيقية، إذاً هل هذا يعني أنه لا يوجد قبلة حب حقيقي!.. يعني أن لا يوجد حب حقيقي من الأساس!، دمرتِ أفكاري وهدمتِ طفولتي بيوم واحد..لأنكِ قاسية!

ظلت الوالدة بتعابير وجهها الثلجي وظلت تقرأ بالورقة وكأن تعابير وجهها قد شُلت!..

 أتذكرين اليوم الذي تشاجرتِ معي فيه لأرتدي الحجاب..لأن جسمي قد نضج ويجب علي تغطيته، تذكرين ماقلتِ، قلتِ لي بالنص وأنت بكامل قواكِ العقلية (لقد أبتلاني الله بأنجاب فتاة مثلك..).. أنا كنتُ أبتلائك فقط لأنني رفضت أرتداء الحجاب..لأنني أحببت أن أكون حرة..

لم تتركي لي الأمر أختياراً ابداً، فكل الفتيات لم تكن مرتدية الحجاب بسني ،فَلِمَ أفعل أنا؟ *ثأثرتُ الأم وبدأت ترتكز عيناها على الرسالة فقط ونهى مترقبة لأن تنتهي والدتها..ثم أكملت القراءة..

 وبنفس المرحلة عندما أُعجب بي أحد الفتيان وأعطاني رقم هاتفه.. ذلك اليوم كنت أشعر أن هناك من يهتم بي يا أمي لذلك أتصلت برقمه وأنتِ نائمة، حاولت جاهدة أن لا تسمعينني وأنا أتكلم معه..

ولكنكِ لطالما كنتِ تستمعين لخطواتي.. تترقبين وتمهدين نفسك لعقابي، خرجتِ هذا اليوم من غرفتك لشرب الماء ولكنك سمعتِ صوتي وأنا أقول هامسة( لا أسمعك يا أحمد ماذا قُلت؟)، دخلتِ غرفتي وقمت بصفعي هذا اليوم.. حتى الفتى قد سمع صوت صفعتك لي من الهاتف..بكيتُ هذا اليوم فيدُكِ كانت قوية!

 أخذتِ مني الهاتف عقاباً لي ..حتى إنني لم أرى الهاتف من يومها  سوى بالعام التالي!.

أخذت الأم نفساً عميقاً ووضعت يدها على وجهها بآسف،ثم تشجعت الأم وأستجمعت قواها وأكملت القراءة..

 حتى وأنا شابة بهذا العمر…منذ أسبوعين بالظبط..عندما حاولت الأنتحار .. حيث قمتي برفض ثلاثة فتيان جاءوا لخطبتي، لكن لتعلمي سبب تلك المحاولة.. أنا لم أحاول الأنتحار لأنني خشيتُ أن يفوتني قطر الزواج، لا.. أنا خشيتُ أن يفوتني قطر الزواج وأبقى معكِ.

قلتِ لي هذا اليوم مُعنِفة (كنتِ ستقتلين نفسك أيتها الحمقاء.. ألم تفكري كيف سيكون وجهنا أمام الناس؟ ماذا سيقولون عننا!).. كل ما همك بتلك الليلة مظهرنا أمام الناس!…

ألم يُهمُكِ موتي!؟..أنتِ قاسية بالبكاء وقد وضعت يدها على وجهها لتخبئه قائلة بصوت هامس ناكرة ما قرأت..

لا..لا، لا يا نهى لا..

“كانت نهى تراقب والدتها وملامحها وردة فعلها!.. تلك اول مرة تجهش والدتها بالبكاء بهذا الشكل!  وبعد عدة دقائق أستجمعت الأم قواها ثم أكملت القراءة..

 ولكني كنت اتسائل دائما..هل أمي تكرهني؟..

لكن لا.. ذلك اليوم الذي عنفتني فيه كي لا تشتري الدمية.. ذلك اليوم عندما عدنا للمنزل تسللت لغرفتك وفتحت خزانتك التي تضعين بها المال..

وجدت صندوق كان معلق عليه ورقة مكتوب فيها..(لأطعام نهى)..  فتحت الصندوق وماكانت سوى أموال قليلة جدا تكفي لأطعام فردين.. هو أنا وأنتِ، لم تخبرينني أننا فقراء يا أمي وأن اموالنا تكفي بصعوبة لأطعامنا!

 ظهرت علامات الأبتسامة على الأم وأكملت القراءة حيث كتبت.. واليوم الذي أجبرتني فيه على أرتداء الحجاب.. فقد كان شارعنا مليء بالشباب السكير والفاسد.. الذي يمكن بسهولة أن يؤذونني، فكيف أن أخرج كاشفة شعري وبعض من أجزاء جسدي أمام هؤلاء الفاسدين؟!

 خشيتِ علي منهم وأنا لم أدرِكُ ذلك…وذلك اليوم الذي أخذت فيه هاتفي وصفعتني..باليوم الذي يليه عندما ذهبت لمجموعة الدروس كان نفس الفتى يعطي رقم هاتفه لفتاة أخرى لتتكلم معه ليلاً دون علم أهلها.. وقتها علمت أنكِ أردت مصلحتي.

مسحت الأم دموعها وبدأت تقرأ بدقة.. وبأخر أسبوعين.. عندما حاولت الأنتحار.. هذا اليوم الذي ظننت منه أن لا يهمك سوى مظهرنا أمام الناس..

 بالمساء عندما كنت ذاهبة للمطبخ لشرب الماء.. سمعتُكِ تبكين.. تسللت ووضعت اذني على الباب.. سمعتك وأنتِ تدعين لي.. وتدعي أن يسامحك الله.. سمعتك تقولي: يا إلهي أحمها لي.. أنت تعلم مدى حبي لها.. يارب أحفظها لي وسامحني إن قسوتُ عليها..

أمي .. أنتِ قاسية بكل شيءٍ حتى حُبِك لي..ولكنني حقاً أحِبُكِ!

أنهت الوالدة قراءة الرسالة وظلت تبكي لدقيقتين، حتى خرجت نهى من وراء الستار ووقفت أمام والدتها مطأطأة رأسها دون أن تتكلم.. ساد الصمت لعشر ثوان.. ثم نهضت الأم وأحتضنت نُهى بشدة قائلة بصوت محشرج..”

أنا أسفة يا بُنَيتي..أنا أسفة..

“أسترخت نهى بين أحضان والدتها وهي تشعر بالأمان المطلق.. وأسندت رأسها على كتف والدتها وقالت باكية”..

لا تبكي أرجوكِ..

“ثم تابعت بصوت محشرج”..

أُحِبُكِ يا أمي..

بقلم.. نوران عبد الرحمن أمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى