راي الوطني

من أرشيف الكتاب.. مع مرتبة الشرف..بقلم الراحل: عبدالوهاب مطاوع

مع مرتبة الشرف..بقلم الراحل: عبدالوهاب مطاوع

لست اذكر متي على وجه التحديد قرأت هذه الاسطورة التى رواها حكيم صيني، لكن المؤكد اني قرأتها في وقت مبكر من صباي او شبابي فساهمت في خلق تلك الحالة الوجدانية التي تجد فيها الاية الكريمة (وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم) .. ارضها الخصبة في نفسي، فقد روي الحكيم الصيني ان شيخا كان يعيش فوق تل من التلال ففر جوادة وجاء اليه جيرانه يواسونه فى هذا الحظ العاثر فأجابهم بلا حزن ومن أدراكم انه حظ عاثر؟ وبعد أيام قليلة عاد اليه الحصان مصطحبا معه عددا من الخيول البرية، فجاء اليه جيرانه يهنئونه بهذا الحظ السعيد، فاجابهم بلا تهلل ومن ادراكم انه حظ سعيد؟ ولم تمضي أيام حتى كان ابنه الشاب يدرب احد هذه الخيول البرية فسقط من فوقه وكسرت ساقة وجاءوا اليه يواسونه في هذا الحظ السيىء فأجابهم بلا هلع ومن ادراكم انه حظ سييء وبعد اسابيع قليلة اعلنت الحرب وجندت الدولة شباب القري والتلال وأعفت ابن الشيخ من القتال لكسر ساقه، فمات فى الحرب شباب كثيرون، وهكذا ظل الحظ العاثر يمهد لحظ سعيد، والحظ السعيد لحظ عاثر الي مالا نهاية في الاسطورة ..

واحسبها كذلك في الحياة الي حد بعيد لهذا فاهل الحكمة لا يغالون فى الحزن على شىء فاتهم لانهم لا يعرفون على وجه اليقين ان كان فواته هو شر خالص .. أم خير خفي اراد الله به ان يجنبهم ضررا أكبر، أو أراد لهم بعدة خيرا أعم، ولا يغالون أيضا في الزهو والابتهاج بشىء لنفس السبب .. وانما يشكرون السماء دائما على كل ما اعطتهم ويفرحون باعتدال .. ويحزنون على ما فاتهم بصبر وتجمل، وما أكثر المواقف التى تذكرت فيها هذه الاسطورة الصينية في حياتى.

لكن هناك موقفا منها أكثر طرافة من غيره وقد جري لي منذ عشرين عندما رشحتنى نقابة الصحفيين للسفر إلي ألمانيا الشرقية في دورة سياسية عن طريق الاتحاد الاشتراكي القديم، وكان أمين الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي قد عقد اتفاقية سياسية مع الحزب الشيوعي الالماني على تنظيم دورتين تستغرق كل منهما شهور “لتوعية” شباب العاملين فى الاعلام والصحافة في مدرسة الكادر التابعة للحزب.. وطلب من نقابة الصحفيين والاذاعة والتلفزيون ترشيح أعداد من شبابها لاختبار “ثوريتهم” امام لجنة من كبار أعضاء الأمانة بالاتحاد الاشتراكي واختيار أكثرهم تقدميه للسفر فى البعثة الأولي .. ورشحتنى النقابة ضمن من رشحت وذهبت الي مقر الاتحاد الاشتراكي في موعد الاختبار فوجدت اعدادا كبيرة من الصحفيين والاعلاميين تنتظر دورها للمثول أمام أعضاء اللجنة …

ثم جاء دورى مع اثنين من الزملاء أحدهم من الأهرام والآخر من مؤسسة أخري فوجدت مائدة عريضة يجلس الي جانب منها 4 أعضاء أحدهم مذيع بصوت العرب والآخر محام نشىء بالاسماعيلية والثالث استاذ جامعي ماركسي معروف.. أما الرابع فكان من معجزات ذلك الزمان العجيب، فقد تم تصعيده سياسيا بالاتحاد الاشتراكي وفوجئنا به نجما لامعا على صفحات جريدة الجمهورية يقود حملة شرسة ضد الاتجاهات “الخيانية الاستسلامية” الكامنة في بعض أجهزة الاعلام وخاصة فى الاهرام ورئيس تحريرها محمد حسنين هيكل، ولاحظت بدهشة إن مناضل السويس قد اشاح بوجهه عنى ولم يشترك في المناقشة عزوفا عن ان يخاطب اثنين من “الهيكليين” ، من أمثالنا أو حتى تقع عيناه “التقدمتيان” عليهما، وجاء دوري في المناقشة فسألني الأستاذ الجامعي عن سبب رغبتى فى السفر في هذه البعثة .. فأجبته بسذاجة وبلا أى محاولة لإدعاء “التقدمية” و”الثورية” بأنها فرصة لي للاطلاع المنهجي المنظم على أسس الفكر الماركسي في مدرسة حزبية تدرسه لطلابها.. وذلك بغض النظر عن اقتناعي به أو عدم اقتناعي..

كما انها فرصة للعودة لحياه الدراسة بعد ان استغرقنى العمل الصحفي اليومي لعدة سنوات .. فالتقط الخيط مذيع صوت العرب وقال لي عظيم.. ما رأيك اذن في هذا المانشيت؟ وقدم لي نسخة من الأهرام الصادر في ذلك اليوم بداية من عام 1971 وكان لعنوانه الرئيسي ضجة سياسية وقتها.. فقد كانت مهلة اطلاق النار بيننا وبين اسرائيل على جبهة القناة فى حرب الاستنزاف تقترب من نهايتها، ورأت حكومة السادات الذي كان قد تولي الحكم منذ شهور قلائل انها غير مستعدة لاستئناف حرب الأستنزاف التى أصابت مدن القناة بخسائر جسيمة، فنشطت الجهود الدبلوماسية الدولية لمد وقف اطلاق النار، في حين كانت مجموعة الاتحاد الاشتراكي التى تفجر الصراع بينها وبين السادات تري وجوب استئناف معارك الاستنزاف للمحافظة على درجة سخونة الجبهة الداخلية في مصر بغض النظر عن اية خسائر بشرية أو مادية تنتج عنها.. وفي غمرة هذا الصراع انحاز رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل إلى جانب السادات فاعتبره مناضلو الاتحاد الاشتراكي جزءا من المؤامرة الامبرايالية لتفريغ القضية من محتواها “النضالي”… الخ هذه الخزعبلات المعتادة .. ثم خرج الأهرام لسوء حظي يوم الاختبار بمانشيت يتحدث عن ان الجهود الدبلوماسية الدولية على أشدها لمد وقف اطلاق النار، فجعل منه أعضاء اللجنة مادة أساسية فى اختبار ثورية المتقدمين للبعثة، فمن أدان الاتجاهات “الخيانية الاستسلامية” المتخفيه وراء سطوره .. كان جدير بثقة اللجنة.. ومن لم يكتشفها كان لا أمل فى تقدميته أو أحقيته في الالتحاق بهذه الدورة.

ونظرت حولي فرأيت أعضاء اللجنة المناضلين يركزون أنظارهم على بما فيهم مناضل السويس العازف عن المناقشة انتظارا لسماع رأيي في هذه المؤامرة المفضوحة وبغباء لا حيله لي فيه لانه يستنفر في مثل هذا المواقف ولا استطيع رده، انه مانشيت صحفي هام يكشف ان هناك جهودا سياسية دولية وسرية تسعي لتأجيل مد وقف إطلاق النار، وانه من الأرجح أن هذه الجهود سوف تتواصل الى ذلك.. فقال لي المذيع: هذا من الناحية الصحفية البحتة لكنى أخاطب فيك “ثوريتك”.. ألا تري أن هذا المانشيت يضعف الروح القتالية لدى الجنود ويثبط الروح المعنوية لدي الشعب المتوثب لاستئناف الكفاح المسلح ضد اسرائيل..

أدركت في هذه اللحظة ان سفري فى البعثة معلق في طرف لساني فاذا أردت السفر ينبغي على أن “أزايد” عليه وأن أخطب فيه خطبه تندد بالمؤامرة وتؤكد أن الشعب من أسوان للاسكندرية لاينام الليل انتظارا لانتهاء المهلة لكى تعود المدافع والطائرات تئز فى جبهة القناة مع اختلاف هين هو ان مدافعنا وطائراتنا تضرب فى رمال سيناء وهي أرضنا ولا تقترب من اسرائيل، ومدافعهم وطائراتهم تضرب مدن القناة وتهجر مئات الألوف من سكانها إلى ريف الدلتا المزدحم بسكانه، وفجأة احسست براحة نفسية غريبة وزالت رهبة الامتحان من نفسي واحسست بحرية عجيبة بعد إن تخلصت من رق الأمل والرجاء في البعثة .. وعرفت معنى العبارة التي تقول (اليأس حر .. والرجاء عبد رقيق) فقلت للممتحن بمنتهي الهدوء والارتياح واليأس من السفر: لا ياسيدي هذا المانشيت لايضعف الروح القتالية لدي الجنود والأفراد، وليس جزءا من مؤامرة خيانية أو استسلامية، والشعوب تقاتل حين تكون مستعدة للقتال وليس من الوطنية أن نسخنها لمعركة ليست قريبة أو نوهمها بمعركة لم يئن أوانها بعد ونظل نوقد النار باستمرار تحت مرجلها .. ونستمتع بمرآها وهي تتلظى بالنيران باستمرار تحت مرجلها..ونستمتع بمرآها بحجة الحافظ على الروح القتالية… فاذا جاءت المعركة لم يبق من طاقتها ولا من روحها المعنوية ما تقدمه لها حين تشتد الحاجة لعطائها وهذه الصحيفة صحيفة مصرية تعمل لحساب مصر ولايمكن أن تكون طرفا فى مؤامرة امبريالية أو غير امبريالية على شعبها وجنودها.

وأنهيت كلامي وانا في قمة السعادة واليأس!.

وجاء الدور على زميلى الذي يعمل بمؤسسة أخري فانبري يندد بعملاء الوطن وبمحاولات اضعاف الروح المعنوية للشعب كله بمثل هذه الأخبار المدسوسة ويؤكد ان الشعب كله يريد القتال الآن – لاحظ اننا كنا فى بداية عام 1971 ولم يكن جيشنا قادرا وقتها على خوض المعركة – وانه سمع مكوجي في أحد المؤتمرات الشعبية انه لم يقارب زوجته منذ هزيمة يونيو وأقسم ألا يقترب منها إلا بعد النصر، وللامانة فإن أعضاء اللجنة لم ينخدعوا بهذه الاكذوبة، وتسألوا باسمين عما اذا كانت هناك أسباب صحية أخري لهذه الوطنية المفرطة.

وخرجت من لجنة الاختبار مرحا، ونزلت إلي صديقي الذي ينتظرني بسيارته على كورنيش النيل، وما أن رأني اقترب مبتهجا حتي تساءل باسما: خيرا ؟ فاجبته وأنا اركب بجواره : كل خير .. رسبت ومع مرتبة الشرف.

وسافر أعضاء البعثة إلى ألمانيا الشرقية ولم تمضى شهور حتى كسب السادات الصراع بينه وبين مجموعة الاتحاد الاشتراكي وزج بهم جميعا فى السجون، ودخل كل أعضاء لجنة الاختبار السجن وابعدوا عن مواقعهم.. أما أعضاء البعثة فقد عادوا بعد اسابيع فوجدوا الدنيا قد تغيرت .. وفوجىء معظمهم بإبعادهم عن مجال الاعلام بكل أسف وبادراجهم فى قوائم السادات السوداء بتهمة عضوية التنظيم الطليعي الذى كان حزبا سريا داخل الاتحاد الاشتراكي وتم اختيار معظم أعضاء البعثة من بين أعضائه أو من المرشحين لعضويته.. ولم أكن من هؤلاء .. وربما كنت من أولئك الذين كانوا مرشحين لاختبار جدارتهم .. لكنى أفسدت على نفسي كل شىء ..والحمد لله على كل حال فلو كنت قد تمسكت بالرجاء لربما فزت بالبعثة وبما يترتب عليها من تبعات.. ولربما تغير طريق حياتي.. لكنها الأسطورة الصينية القديمة والأرض الخصبة التي إنغرست فيها تلك الآية الكريمة منذ سنوات طوال فجعلتنى في كثير من الأحوال لا آسي كثيرا على ما فاتنى .. ولا أرقص طربا لما ينالني من خير .. وإنما أشكر ربي كثيرا وأدعوه أن يكون خيرا حقيقيا لا شر بعده .. أمين يارب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى